خَمْر أيلول
10-07-2016, 03:21 PM
بقلم / د. زهرة خدرج
على الرغم من أن الكلاب في ضيعتنا كثيرة، إلا أن لكلب المختار حكاية مختلفة تختلف عن باقي الكلاب والحكايات. يعتني الناس في ضيعتنا بالكلاب كما يعتنون بماشيتهم وأبنائهم للدور العظيم الذي تؤديه، فقبل عامين وبعد أن انتهى أبو محمود جارنا من حصاد قمحه وجمعه في أرض نظفها وأعدها لهذا الغرض، حاول مجهلون أن يضرموا النار في القمح الموضوع في أكوام كبيرة على الأرض، ولولا لطف الله ويقظة كلب الحراسة الذي هاجمهم وأثخن فيهم الجراح فولوا هاربين، لاحترقت الأرض بما عليها، وعمي أبو سالم لولا تدخل كلبه ودخوله في معركة شرسة مع الذئاب التي سطت على الحظيرة لأكل قطيع الذئاب الأغنام وانتهى أمر عمي أبو سالم وغنمه.
لنعود لكلب المختار المدلل، فهذا الكلب مفضل لدى المختار على أي شيء آخر، حتى على كبير الحرس، يقدم له المختار من الطعام ما لا يأكله أغنى أغنياء الضيعة، على الرغم من أن هذا الكلب مزعج، كثير النباح، يثور بسرعة ويمسك بتلابيب من يقترب من باب قلعة المختار، ولا يفلته إلا إذا أمره المختار شخصياً بذلك. لا أحد يدري السبب الذي يجعل المختار يفضل هذا الكلب تحديداً، وتدور الكثير من الشائعات حول ذلك، فمثلاً، تدَّعي نسوة الضيعة أن هذا الكلب سعره مرتفع جداً لأنه من نوع نادر وهو هدية من والدة زوجته التي يحبها جداً، أما الرجال فيعتقدون أن هذا الكلب قد أنقذ حياة ابن المختار عندما كان طفلاً صغيراً حين كاد يقع من شرفة القلعة فأمسك الكلب بثيابه وسحبه إلى الأرض وأخذ ينبح بقوة حتى حضرت والدته وانتبهت للخطر الذي يحيط به، فآمنت منذ ذلك الحين بإخلاص هذا الكلب وبذكائه الفريد فاستحق العناية الخاصة التي يحظى بها. وهناك بعض العجائز الذين يرجحون انتماء الكلب لسلالة نبيلة، يمتد أصلها في عمق التاريخ ما يجعله يحظى بمكانة لا يحظى بها أحد في الضيعة.
حاول كبير الحرس شراء الكلب لشعوره بالغيرة منه، فأرسل واسطة بمبلغ كبير جداً من المال وعرضه على المختار إلا أنه رفض حتى مجرد التفكير بالعرض، فهذا الكلب يوازي الضيعة بمن فيها.
في إحدى الليالي، ضرب الضيعة إعصار شديد تكسَّرت على إثره الأشجار السامقة، وانهارت بعض البيوت التي تتكون سقوفها من الصفيح، وتحطمت الحظائر التي تأوي الماشية، وتبع العاصفة بروق ورعود قصفت الأرض بغضب ثم انهمرت الأمطار بشدة... ارتفع الصراخ والعويل ونداءات الاستغاثة في القرية، وساد الهرج وأخذ الناس يولون هاربين من القرية لا يدرون أين ولا يلوون على شيء، فقط يريدون النجاة بأرواحهم... لجأ الناس إلى مغارات في قعر الجبل كان أجدادهم قد هجروها منذ زمن بعيد...
أما المختار فقد تحصن داخل قلعته وشدد الحراسة حول أبوابه... وبعد بزوغ الفجر وانقشاع الغيوم وهدوء العاصفة، اكتشفت الناس فقدان الأرملة سمية وابنتها ذات السنوات الست، بحثوا في كل مكان في الضيعة على أي أثر يدل على وجود الأرملة وابنتها دون جدوى، واكتشف الحرس اختفاء كلب المختار... تم إبلاغ المختار على وجه السرعة بحادثة اختفاء الكلب، جن جنون المختار: وأخذ يرغي ويزبد ويشتم قائلاً: وأين كنتم طوال هذا الوقت، العاصفة هدأت منذ ساعات ولا تدرون عن اختفاء الكلب شيئاً إلا الآن ؟ ابحثوا عنه في كل مكان... قبل مغيب شمس هذا اليوم يجب أن يكون مصير الكلب قد اتضح...
هب أحد الحرس قائلاً: سيدي، اختفت سمية الأرملة أيضاً وابنتها.
قال المختار بازدراء: وما شأني أنا؟ فلتذهبا إلى الجحيم... ارتاحت الضيعة من أرملة كانت تعيش عالة عليها.
-وما ذنب الطفلة يا سيدي؟
-وما ذنبي أنا لأشغل نفسي بهما؟ لدي من الهموم ما يكفيني.
بدأت الشمس الباهتة تميل في غرب السماء التي تتكاثف فيها الغيوم داكنة السواد والتي تنذر باقتراب ليل شديد المطر، لم يظهر أي أثر يدل رجال المختار على الكلب، وأهل الضيعة على سمية وابنتها...
وكان المختار يدير غرفة عمليات البحث عن الكلب بنفسه... ومع قرب انتهاء نهار ذلك اليوم وتلاشي أمل العثور على الكلب، شكل المختار فريق إنقاذ وزودهم بمعدات للبحث خارج الضيعة وأمرهم بالانطلاق وعدم العودة إلا بالكلب حياً أو ميتاً.
سمع أهل الضيعة من بعيد صراخ راعي يستغيث باستماتة، هبُّوا لمساعدته، فأخبرهم وهو يلهث بقوة ولا يكاد يستطيع الكلام بوجود طفلة محاصرة بين السيول خارج القرية، هب الجميع لإنقاذ الطفلة... بذلوا ما بوسعهم للوصول لها، ولكنهم لا يمتلكون الأدوات اللازمة لذلك، خشي الكبار منهم أن تجرف السيول من يحاول أن ينزل في الماء ويصل لها، فتتضاعف المصيبة... أرسلوا وفداً للمختار يطلب منه أن يأمر فريق إنقاذ الكلب بالتوجه لمساعدة الطفلة... ولكن المختار رفض رفضاً قاطعاً، فقد تسربت له أخبار بأن أحد سكان القرية المحاذية لضيعته قد رأي جثة كلب تسحبها المياه، فلا بد وأن تكون لكلبه المفقود خاصة وأن لون الجثة وصفاتها تتطابق مع لون الكلب وصفاته، ولأن عليه أن يكرم الكلب ميتاً كما أكرمه حياً لا بد من إحضار جثته قبل أن تختفي بين الجبال ومجاري السيول... إذن فليبحث أهل الضيعة عن طفلتهم وينقذوها بطريقتهم، وليهتم هو بجثة كلبة.
صنع شبان الضيعة من أغصان الأشجار والحبال ما يشبه جسراً بدائياً تسلقه أحدهم وحاول الوصول للطفلة، إلا أن الجسر تمزق بفعل الماء والرياح وانجرف بعيداً بمن عليه، وبصعوبة شديدة تمكن الشاب من التشبث بصخرة كبيرة، والخروج من الماء، وفي أثناء معركة النجاة تلك، شاهد الشاب جثة كلب على صخرة وسط السيل، وعلى صخرة أخرى تبعد عنها قليلاً تجلس فتاة صغيرة ترتجف وتبكي، صرخ بصوت عالٍ: الفتاة لا زالت بخير، أخبروا المختار، بأن جثة كلبه موجودة هنا فوق الصخور. وامتلأ قلب الشاب أملاً، فالمختار حتماً سينقذ الفتاة في أثناء طريقه لانتشال جثة الكلب.
نجح المختار في إتمام المهمة التي قدم خصيصاً من أجلها بعد أن أسدل الليل ستاره الحالك على عيون النهار. طلب منه أهل الضيعة إنقاذ الطفلة، إلا أنه اعتذر بالظلام وببدء سقوط المطر، ألح عليه أهل الضيعة، فوعدهم بالعودة في الصباح لإتمام المهمة...
ثار أهل الضيعة، فتأهب رجال المختار للدفاع عنه، نشب في البداية عراك بالأيدي، ثم استعملت العصي، وأخرج المختار ورجاله بنادق أطلقوا النار منها فقتلوا وأصابوا واعتقلوا من تصدى لهم، صمت من بقي من أهل الضيعة وعادوا إلى بيوتهم حانقين وخائفين، يبكون الطفلة التي أصبحت قصة يرويها أهل الضيعة... وفي الليالي العاصفة الماطرة أخذ أهل الضيعة يسمعون بكاء طفلة تستغيث وسط الأمطار. أما المختار فأصيب بجنون المطر، حيث غدا يطوف الضيعة حافي القدمين في الأيام الماطرة يهذي بكلام كثير عن كلب أغبر حياته أثمن من حياة ناس الضيعة مجتمعين!!
على الرغم من أن الكلاب في ضيعتنا كثيرة، إلا أن لكلب المختار حكاية مختلفة تختلف عن باقي الكلاب والحكايات. يعتني الناس في ضيعتنا بالكلاب كما يعتنون بماشيتهم وأبنائهم للدور العظيم الذي تؤديه، فقبل عامين وبعد أن انتهى أبو محمود جارنا من حصاد قمحه وجمعه في أرض نظفها وأعدها لهذا الغرض، حاول مجهلون أن يضرموا النار في القمح الموضوع في أكوام كبيرة على الأرض، ولولا لطف الله ويقظة كلب الحراسة الذي هاجمهم وأثخن فيهم الجراح فولوا هاربين، لاحترقت الأرض بما عليها، وعمي أبو سالم لولا تدخل كلبه ودخوله في معركة شرسة مع الذئاب التي سطت على الحظيرة لأكل قطيع الذئاب الأغنام وانتهى أمر عمي أبو سالم وغنمه.
لنعود لكلب المختار المدلل، فهذا الكلب مفضل لدى المختار على أي شيء آخر، حتى على كبير الحرس، يقدم له المختار من الطعام ما لا يأكله أغنى أغنياء الضيعة، على الرغم من أن هذا الكلب مزعج، كثير النباح، يثور بسرعة ويمسك بتلابيب من يقترب من باب قلعة المختار، ولا يفلته إلا إذا أمره المختار شخصياً بذلك. لا أحد يدري السبب الذي يجعل المختار يفضل هذا الكلب تحديداً، وتدور الكثير من الشائعات حول ذلك، فمثلاً، تدَّعي نسوة الضيعة أن هذا الكلب سعره مرتفع جداً لأنه من نوع نادر وهو هدية من والدة زوجته التي يحبها جداً، أما الرجال فيعتقدون أن هذا الكلب قد أنقذ حياة ابن المختار عندما كان طفلاً صغيراً حين كاد يقع من شرفة القلعة فأمسك الكلب بثيابه وسحبه إلى الأرض وأخذ ينبح بقوة حتى حضرت والدته وانتبهت للخطر الذي يحيط به، فآمنت منذ ذلك الحين بإخلاص هذا الكلب وبذكائه الفريد فاستحق العناية الخاصة التي يحظى بها. وهناك بعض العجائز الذين يرجحون انتماء الكلب لسلالة نبيلة، يمتد أصلها في عمق التاريخ ما يجعله يحظى بمكانة لا يحظى بها أحد في الضيعة.
حاول كبير الحرس شراء الكلب لشعوره بالغيرة منه، فأرسل واسطة بمبلغ كبير جداً من المال وعرضه على المختار إلا أنه رفض حتى مجرد التفكير بالعرض، فهذا الكلب يوازي الضيعة بمن فيها.
في إحدى الليالي، ضرب الضيعة إعصار شديد تكسَّرت على إثره الأشجار السامقة، وانهارت بعض البيوت التي تتكون سقوفها من الصفيح، وتحطمت الحظائر التي تأوي الماشية، وتبع العاصفة بروق ورعود قصفت الأرض بغضب ثم انهمرت الأمطار بشدة... ارتفع الصراخ والعويل ونداءات الاستغاثة في القرية، وساد الهرج وأخذ الناس يولون هاربين من القرية لا يدرون أين ولا يلوون على شيء، فقط يريدون النجاة بأرواحهم... لجأ الناس إلى مغارات في قعر الجبل كان أجدادهم قد هجروها منذ زمن بعيد...
أما المختار فقد تحصن داخل قلعته وشدد الحراسة حول أبوابه... وبعد بزوغ الفجر وانقشاع الغيوم وهدوء العاصفة، اكتشفت الناس فقدان الأرملة سمية وابنتها ذات السنوات الست، بحثوا في كل مكان في الضيعة على أي أثر يدل على وجود الأرملة وابنتها دون جدوى، واكتشف الحرس اختفاء كلب المختار... تم إبلاغ المختار على وجه السرعة بحادثة اختفاء الكلب، جن جنون المختار: وأخذ يرغي ويزبد ويشتم قائلاً: وأين كنتم طوال هذا الوقت، العاصفة هدأت منذ ساعات ولا تدرون عن اختفاء الكلب شيئاً إلا الآن ؟ ابحثوا عنه في كل مكان... قبل مغيب شمس هذا اليوم يجب أن يكون مصير الكلب قد اتضح...
هب أحد الحرس قائلاً: سيدي، اختفت سمية الأرملة أيضاً وابنتها.
قال المختار بازدراء: وما شأني أنا؟ فلتذهبا إلى الجحيم... ارتاحت الضيعة من أرملة كانت تعيش عالة عليها.
-وما ذنب الطفلة يا سيدي؟
-وما ذنبي أنا لأشغل نفسي بهما؟ لدي من الهموم ما يكفيني.
بدأت الشمس الباهتة تميل في غرب السماء التي تتكاثف فيها الغيوم داكنة السواد والتي تنذر باقتراب ليل شديد المطر، لم يظهر أي أثر يدل رجال المختار على الكلب، وأهل الضيعة على سمية وابنتها...
وكان المختار يدير غرفة عمليات البحث عن الكلب بنفسه... ومع قرب انتهاء نهار ذلك اليوم وتلاشي أمل العثور على الكلب، شكل المختار فريق إنقاذ وزودهم بمعدات للبحث خارج الضيعة وأمرهم بالانطلاق وعدم العودة إلا بالكلب حياً أو ميتاً.
سمع أهل الضيعة من بعيد صراخ راعي يستغيث باستماتة، هبُّوا لمساعدته، فأخبرهم وهو يلهث بقوة ولا يكاد يستطيع الكلام بوجود طفلة محاصرة بين السيول خارج القرية، هب الجميع لإنقاذ الطفلة... بذلوا ما بوسعهم للوصول لها، ولكنهم لا يمتلكون الأدوات اللازمة لذلك، خشي الكبار منهم أن تجرف السيول من يحاول أن ينزل في الماء ويصل لها، فتتضاعف المصيبة... أرسلوا وفداً للمختار يطلب منه أن يأمر فريق إنقاذ الكلب بالتوجه لمساعدة الطفلة... ولكن المختار رفض رفضاً قاطعاً، فقد تسربت له أخبار بأن أحد سكان القرية المحاذية لضيعته قد رأي جثة كلب تسحبها المياه، فلا بد وأن تكون لكلبه المفقود خاصة وأن لون الجثة وصفاتها تتطابق مع لون الكلب وصفاته، ولأن عليه أن يكرم الكلب ميتاً كما أكرمه حياً لا بد من إحضار جثته قبل أن تختفي بين الجبال ومجاري السيول... إذن فليبحث أهل الضيعة عن طفلتهم وينقذوها بطريقتهم، وليهتم هو بجثة كلبة.
صنع شبان الضيعة من أغصان الأشجار والحبال ما يشبه جسراً بدائياً تسلقه أحدهم وحاول الوصول للطفلة، إلا أن الجسر تمزق بفعل الماء والرياح وانجرف بعيداً بمن عليه، وبصعوبة شديدة تمكن الشاب من التشبث بصخرة كبيرة، والخروج من الماء، وفي أثناء معركة النجاة تلك، شاهد الشاب جثة كلب على صخرة وسط السيل، وعلى صخرة أخرى تبعد عنها قليلاً تجلس فتاة صغيرة ترتجف وتبكي، صرخ بصوت عالٍ: الفتاة لا زالت بخير، أخبروا المختار، بأن جثة كلبه موجودة هنا فوق الصخور. وامتلأ قلب الشاب أملاً، فالمختار حتماً سينقذ الفتاة في أثناء طريقه لانتشال جثة الكلب.
نجح المختار في إتمام المهمة التي قدم خصيصاً من أجلها بعد أن أسدل الليل ستاره الحالك على عيون النهار. طلب منه أهل الضيعة إنقاذ الطفلة، إلا أنه اعتذر بالظلام وببدء سقوط المطر، ألح عليه أهل الضيعة، فوعدهم بالعودة في الصباح لإتمام المهمة...
ثار أهل الضيعة، فتأهب رجال المختار للدفاع عنه، نشب في البداية عراك بالأيدي، ثم استعملت العصي، وأخرج المختار ورجاله بنادق أطلقوا النار منها فقتلوا وأصابوا واعتقلوا من تصدى لهم، صمت من بقي من أهل الضيعة وعادوا إلى بيوتهم حانقين وخائفين، يبكون الطفلة التي أصبحت قصة يرويها أهل الضيعة... وفي الليالي العاصفة الماطرة أخذ أهل الضيعة يسمعون بكاء طفلة تستغيث وسط الأمطار. أما المختار فأصيب بجنون المطر، حيث غدا يطوف الضيعة حافي القدمين في الأيام الماطرة يهذي بكلام كثير عن كلب أغبر حياته أثمن من حياة ناس الضيعة مجتمعين!!