m0m3n
12-24-2021, 11:26 PM
كان لي قبل زمانٍ ليس بالقصير صديقة مسيحيّة، كان رأسي البائس لا يحتمل جزالة جمالها، خاصة وهي تمضغُ "المِسْتِكَة" بأسنانٍ من لؤلؤ حرٍ لم تمسسهُ شفاه، حيث كانت تُخرِجُ لي لسانها وتهز رأسها وهي تقول: لقد تسحّبتُ فجرًا إلى سطح منزلنا، وشربتُ القهوة على صوت أنغام أذان الفجر من جامع "كاتب ولاية".
هي تعلم جيدًا أن هذه أمنيتي أنا، حيث كانت تتقصد إغاظتي، أوهٍ، لو تمكّنتُ منها ساعتها، لخرّبت لها كعكة شعرها وقرصتها قرصة يستيقظ على صوت صراخها كل سكان حي الزيتون القديم.
صديقتي هذه كنتُ كلّما رأيتها تبزغ كالشمس من زقاق منزلهم الطاعن في الجمال، خلف المشفى المعمداني بغزة القديمة، أردّد على مَسمعها مُشاكسًا إياها: أشهد أن لا إله إلا الله، فترد هي: وأشهد أن عيسى رسول الله.
كثيرًا ما كانت تجمعنا الصُدفة في أماكن عديدة، فغزة مدينة لا تُمكنك من العُزلة أبدًا، فكل مطرح تكون فيه حتمًا ستلتقي مع صديق قديم لا تود رؤيته، أو صديقة جديدة، يدغدغ الهوى قلبها، فتهرب منها كي لا تقع في حبالك التي تعي جيدًا أنها لن تخرج منها إلا مكبّلة القلب .. بلا فائدة.
تلاقينا يومًا - بحكم الصدفة أيضًا - في إحدى الكافتيريات القليلة على شاطئ البحر، وطلبت منها أن أحقق أمنيتي بشُربِ القهوة فوق سطح منزلهم وقت العِشاء، فرفضت بتمنع أنثوي كاد يُذهبُ بما تبقى لدي من صبر على تخريب كعكة شعرها التي كانت تغيظني جدًا، سيّما ذلك الشَّعر الكسول الذي ينام على رقبتها رافضًا الإنصياع لأصابعها الطويلة وهي تُصنع من جدائلها كعكة .. ربما أجدُ عزائي فيه، فهو الوحيد القادر على التّمرد عليها دون أن يخسر ضحكتها التي تشبه الكاكاو.
تحادثنا طويلاً، وهي تُحاول بكل مكرِ أن تُنسيني ما كنت أطلبه، وأنا كنت قد بدأت فعلا بالنسيان والسّرحان في توهان عينيها المُقدستين، حتى جاءت موجة بحر عالية الهمّة، فنثرت علينا ما كانت تحمل من ماء الدموع، فأيقظتني من سرحاني، فبلّلت تنورتها التي كان يعبث بها الهواء غير آبه بمسكينٍ يحتضر كلما لاح طرفها في الهواء
قامت على عجل لتُخفِف من بلل ملابسها، فصدمت بيدها فنجان القهوة الذي كان أمامي فتوزّع ما فيه من حبٍ على ملابسي ويدها.
لم أبدِ أي اهتمام بما حصل لملابسي، فلستُ أحمق لدرجة أن أُضيّع لحظة وقوفها فزعة من شيء ما، كنتُ أتوقع أنها ستحضنني من الخوف بشكل عفوي، كما تفعل النساء عادة، لكنّ ربما كان خوفها من ظنون الناظرين أكبر.
استتب الأمر وعاودنا جلستنا، واعتذرت لي بنبرة حنانٍ على القهوة التي تناثرت على ملابسي بغير قصدٍ منها، فما كان مني إلا أن أقول تلك الجملة البادرة التي نقولها في مثل هذه الحالات: "كّبْ القهوة خير" فراجعت نفسها وقالت: أنا أسحب اعتذاري، إن أردت اعتذارًا فخذه من البحر، وراحت تبحث عن هاتفها النقال الذي انسطح من الرنين فكانت أمها:
- آه يا ماما، معلش ما اعرفت أرد ع الجوال، انكبت مني القهوة، والبحر أبصر ماله.
- بحر شو وقهوة آيه هاي.
- آه، آه .. أنا بالمقهى اللي ع البحر مع صاحبك المخرفن، تبع الحجار القديمة.
- ههههه والله ما مخرفن غيرك، هاتيه وتعالي تغدوا، طابخة مغشي، وعاملة تبولة، شكله حماته بتحبه هالمخرفن .. تعالوا ما تتأخروش ماما حبيبتي.
كان صوتهما واضحٌ لدرجةِ أنني لو دققت أكثر لسمعت صوت الكناري الذي يغني ويطوف في البيت دون قفص ويرفض الهروب - أيِّ مغفل ذاك الذي يهرب من بيتٍ كبيت أم ماريانا؟!.
- سمعت الحكي صح؟ قالت موجهة الكلام لي: يلا قوم نتغدا مغشي، وبتحكي لماما بدنا نطلع ع السطح، وأوعك تحكيها إني بطلع بالليل، والله بخرب بيتك.
كانت أمها قد اتخذت قرارًا بمنع أي أحد من الصعود إلى أعلى البيت، خوفًا من شيء ما لم تُصرح به!.
كان يسكنني هاجس الاكتشاف لتلك البيوت التي بلغت من العمر عتياً، حيث منزلهم يقع بجوار كنيسة برفيريوس أقدم الكنائس في غزة، والملاصقة تمامًا لجامع كاتب ولاية وسط غزة القديمة.
(تكتكنا) ملابسنا ومسحتُ ما استطعت مسحه من القهوة التي رسمت على ملابسي لوحة غريبة الشكل،
وصلنا إلى البيت، وتسللنا إلى حديقة المنزل الصغيرة، مُغافلين أمها الرائعة التي كانت تعد الطعام، حيث أخذتني ماريانا إلى زاوية صخرية كانت تزرع بها وردة جورية حمراء فاقعة اللون، وقطفت منها واحدة وأعطتني إياها، ولم تترك لي فرصة الحديث لأشكرها، بل باغتتني بقولها: هاي مش إلك يا حلو، هاي عشان تعطيها لماما، بلكي تقدر تقنعها، ونشرب القهوة ع السطح!
فأنا أريد أن أشربها بالفعل فوق السطح، فلم أصعد إليه مُنذ خمسة أشهر، وما كنت أقوله لك، عن صعودي وشربي للقهوة فجرًا على صوت المؤذن، كان كذبًا، أو قل أمنيات .. أرجوك، حاول أن تقنع أمي، وقل لها: أن لا تخف من جارنا الجديد، فقد صلَّ في كنيستنا طوال الحرب الفائتة، ونام فيها مُطمئنًا.
محمود جودة
هي تعلم جيدًا أن هذه أمنيتي أنا، حيث كانت تتقصد إغاظتي، أوهٍ، لو تمكّنتُ منها ساعتها، لخرّبت لها كعكة شعرها وقرصتها قرصة يستيقظ على صوت صراخها كل سكان حي الزيتون القديم.
صديقتي هذه كنتُ كلّما رأيتها تبزغ كالشمس من زقاق منزلهم الطاعن في الجمال، خلف المشفى المعمداني بغزة القديمة، أردّد على مَسمعها مُشاكسًا إياها: أشهد أن لا إله إلا الله، فترد هي: وأشهد أن عيسى رسول الله.
كثيرًا ما كانت تجمعنا الصُدفة في أماكن عديدة، فغزة مدينة لا تُمكنك من العُزلة أبدًا، فكل مطرح تكون فيه حتمًا ستلتقي مع صديق قديم لا تود رؤيته، أو صديقة جديدة، يدغدغ الهوى قلبها، فتهرب منها كي لا تقع في حبالك التي تعي جيدًا أنها لن تخرج منها إلا مكبّلة القلب .. بلا فائدة.
تلاقينا يومًا - بحكم الصدفة أيضًا - في إحدى الكافتيريات القليلة على شاطئ البحر، وطلبت منها أن أحقق أمنيتي بشُربِ القهوة فوق سطح منزلهم وقت العِشاء، فرفضت بتمنع أنثوي كاد يُذهبُ بما تبقى لدي من صبر على تخريب كعكة شعرها التي كانت تغيظني جدًا، سيّما ذلك الشَّعر الكسول الذي ينام على رقبتها رافضًا الإنصياع لأصابعها الطويلة وهي تُصنع من جدائلها كعكة .. ربما أجدُ عزائي فيه، فهو الوحيد القادر على التّمرد عليها دون أن يخسر ضحكتها التي تشبه الكاكاو.
تحادثنا طويلاً، وهي تُحاول بكل مكرِ أن تُنسيني ما كنت أطلبه، وأنا كنت قد بدأت فعلا بالنسيان والسّرحان في توهان عينيها المُقدستين، حتى جاءت موجة بحر عالية الهمّة، فنثرت علينا ما كانت تحمل من ماء الدموع، فأيقظتني من سرحاني، فبلّلت تنورتها التي كان يعبث بها الهواء غير آبه بمسكينٍ يحتضر كلما لاح طرفها في الهواء
قامت على عجل لتُخفِف من بلل ملابسها، فصدمت بيدها فنجان القهوة الذي كان أمامي فتوزّع ما فيه من حبٍ على ملابسي ويدها.
لم أبدِ أي اهتمام بما حصل لملابسي، فلستُ أحمق لدرجة أن أُضيّع لحظة وقوفها فزعة من شيء ما، كنتُ أتوقع أنها ستحضنني من الخوف بشكل عفوي، كما تفعل النساء عادة، لكنّ ربما كان خوفها من ظنون الناظرين أكبر.
استتب الأمر وعاودنا جلستنا، واعتذرت لي بنبرة حنانٍ على القهوة التي تناثرت على ملابسي بغير قصدٍ منها، فما كان مني إلا أن أقول تلك الجملة البادرة التي نقولها في مثل هذه الحالات: "كّبْ القهوة خير" فراجعت نفسها وقالت: أنا أسحب اعتذاري، إن أردت اعتذارًا فخذه من البحر، وراحت تبحث عن هاتفها النقال الذي انسطح من الرنين فكانت أمها:
- آه يا ماما، معلش ما اعرفت أرد ع الجوال، انكبت مني القهوة، والبحر أبصر ماله.
- بحر شو وقهوة آيه هاي.
- آه، آه .. أنا بالمقهى اللي ع البحر مع صاحبك المخرفن، تبع الحجار القديمة.
- ههههه والله ما مخرفن غيرك، هاتيه وتعالي تغدوا، طابخة مغشي، وعاملة تبولة، شكله حماته بتحبه هالمخرفن .. تعالوا ما تتأخروش ماما حبيبتي.
كان صوتهما واضحٌ لدرجةِ أنني لو دققت أكثر لسمعت صوت الكناري الذي يغني ويطوف في البيت دون قفص ويرفض الهروب - أيِّ مغفل ذاك الذي يهرب من بيتٍ كبيت أم ماريانا؟!.
- سمعت الحكي صح؟ قالت موجهة الكلام لي: يلا قوم نتغدا مغشي، وبتحكي لماما بدنا نطلع ع السطح، وأوعك تحكيها إني بطلع بالليل، والله بخرب بيتك.
كانت أمها قد اتخذت قرارًا بمنع أي أحد من الصعود إلى أعلى البيت، خوفًا من شيء ما لم تُصرح به!.
كان يسكنني هاجس الاكتشاف لتلك البيوت التي بلغت من العمر عتياً، حيث منزلهم يقع بجوار كنيسة برفيريوس أقدم الكنائس في غزة، والملاصقة تمامًا لجامع كاتب ولاية وسط غزة القديمة.
(تكتكنا) ملابسنا ومسحتُ ما استطعت مسحه من القهوة التي رسمت على ملابسي لوحة غريبة الشكل،
وصلنا إلى البيت، وتسللنا إلى حديقة المنزل الصغيرة، مُغافلين أمها الرائعة التي كانت تعد الطعام، حيث أخذتني ماريانا إلى زاوية صخرية كانت تزرع بها وردة جورية حمراء فاقعة اللون، وقطفت منها واحدة وأعطتني إياها، ولم تترك لي فرصة الحديث لأشكرها، بل باغتتني بقولها: هاي مش إلك يا حلو، هاي عشان تعطيها لماما، بلكي تقدر تقنعها، ونشرب القهوة ع السطح!
فأنا أريد أن أشربها بالفعل فوق السطح، فلم أصعد إليه مُنذ خمسة أشهر، وما كنت أقوله لك، عن صعودي وشربي للقهوة فجرًا على صوت المؤذن، كان كذبًا، أو قل أمنيات .. أرجوك، حاول أن تقنع أمي، وقل لها: أن لا تخف من جارنا الجديد، فقد صلَّ في كنيستنا طوال الحرب الفائتة، ونام فيها مُطمئنًا.
محمود جودة