المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الفدائي


m0m3n
04-30-2017, 11:49 PM
بقلم والدي

قصة الفدائي




قعدت عند النار أنتظره . قالوا لي إنه سيأتي ربما بعد نصف ساعة . النار بين ثلاث حجرات من حجارة البناء . ترمدت بعض جمراتها . بين الجمرات براد شاي مسود ، وفوق إحدى الحجرات كوب . وتحت شجرة برتقال قريبة عدة أكواب بعضها قائم وبعضها مطروح على جانبه أو مقلوب على فمه . فوضي تليق بعمال . برد صباح فبراير يدفعني إلى إدناء يدي من النار . ملأت الكوب الذي فوق الحجرة فأمتعني شربه وأدفأني .


_ على العافية !
منبع الصوت قريب ، التفت يمنة فرأيته . لعله هو " الفدائي " الذي أنتظره والذي يشرف على
قاطفي البرتقال في البيارة التي جئتها باحثا عن عمل ، فقال العمال لي : انتظر حتى يأتي الفدائي !
كانت عبارته موجهة إلى عاملين ، وتحدث أحدهما معه ، فالتفت إلي واتجه نحوي .
قمت لمصافحته . ابتسم وقال : كيف حالك ؟ شربت شايا ؟
_ شربت .
_ اقعد !
يبدو في الأربعين . نحيف في وجهه مياسم هم تفصح عنها السمرة غير الطبيعية والتجاعيد .

سأل وهو يصب لنفسه كوبا : من أين الأخ ؟
وعرفت نفسي ، فسأل مهتما : حسين أخوك ؟!
_ أخي .
وهز رأسه مبتسما في أسى وقال : كانت كتيبتنا واحدة . هو الآن في مصر .
نطق الجملة الثانية بنبرة استفهامية ، فأكدت ما قال .
_ تحب تشتغل معنا ؟ ما زال عندنا بيارات كثيرة .
فابتسمت مسرورا وأجبته : جئت للشغل .
_ الله يحييك . الاحتلال ضرب البرتقال . لا تصدير له للسنة الثانية .
ونادى : إبراهيم !
فأجابه صوت : حاضر .
_ خذ حسن معك !
انتبهت إلى أن أي عامل لم يخاطبه بالفدائي ، وأن كنيته التي يخاطبونه بها هي " أبو العبد " ، وتبينت في جانب من البيارة ثلاث عاملات إحداهن كبيرة والأخريان شابتان ، أفردن وحدهن عن العمال . وعند انتهاء العمل الساعة الثالثة قال لي أبو العبد : ستبيت عندي الليلة .
قلت شاكرا له : بارك الله فيك !
_ لن أتركك . تذكرني بحسين .
_ في يوم آخر .
_ الليلة . بيتنا أقرب . ونأتي غدا معا .
لم أرَ داعيا للمبيت عنده ، وغالبت نفسي وذهبت معه متوجسا من قلق أسرتي لغيابي .




***
كان يلح على بالي سبب لقبه " الفدائي " مع أنه كان جنديا في جيش التحرير الفلسطيني ، ولم يكن من الفدائيين القوة الفلسطينية ذات المهام الخاصة التي يوحي اسمها بالشجاعة والتضحية ، وراتب عناصرها أكبر من راتب جنود جيش التحرير . وفسرت لنفسي لقبه بأنه ربما أبدى شجاعة مرموقة في الحرب وإن لم أحدد أي حرب . وقبل أن تغيب الشمس بوقت كاف قلت له :
ستقلق أسرتي خاصة أمي لغيابي ، والوضع يدفعها إلى القلق .
فرد نافثا دخان سيجارته كأنه يخاطب شخصا غيري : بعد قليل يبدأ منع التجول . كيف ستصل إلى أهلك ؟!
ورمى بصره من باب الخُص ( كوخ من أغصان الشجر) حانيا رأسه ، وتابع : وربما تمطر عليك !
وقذف بقية سيجارته خارج الخص الذي يجاور بيته المؤلف من حجرتين طينيتين ، واسترسل :
ألا تحب أن تبيت عند عمك أبي العبد وصديق أخيك ؟!
وفكرت : كيف سأقطع الشارع العام ( شارع صلاح الدين الآن ) ؟! يمكن أن تطلع لي دورية إسرائيلية في مكان ما ، ويمكن أن تفاجئني سيارة عسكرية لحظة وصولي إليه حين تكون كل الحركة الفلسطينية من سيارات ومشاة قد توقفت عن المرور فيه . منع التجول يعني رميي بالرصاص فورا . ووجدتني أسأله كأنني أهرب من خواطري المزعجة وحيرتي : لم سموك الفدائي ؟!
وفاجأه سؤالي ، وبانت مفاجأته في وجهه في ضوء موقد الكيروسين الذي أشعله قبل دقائق .
سأل مغالبا توتره : من أخبرك به ؟!
وفطنت إلى أنه يجهد نفسه حتى لا يحرجني ، وعظمت هذا الخلق فيه ، وأسفت لتهوري وخفتي ، وابتسم دون أن تبعد ابتسامته توتره وسأل : عرفته من أحد العمال ؟!
وخرج الجواب مني بصعوبة : قالوا انتظر الفدائي الذي يقبل العامل أو يرفضه .



فقال مشعلا سيجارة جديدة : أنت تعرف . لو علم اليهود باسمي لداهموا بيتنا ، وأصروا على معرفة سببه ، ولن نخلص منهم . يفرقون في معاملتهم بين الفدائي والجندي . قد يقتلون الفدائي أو يؤبدونه في السجن إن كان له عمر. علموا بجنود بعد الاحتلال وحققوا معهم وأطلقوهم . الاسم قصته طويلة !
ولاحظت أن إشراقة مفاجئة غالبت سمرة وجهه العميقة وتجاعيده المتزاحمة ، واستلقى على مخدة زرقاء نقش فوقها عصفوران بلون أحمر، ذكر وأنثاه . وبدأ أبو العبد يحكي : " المستورة أم العبد ، بنت عمي ، رفض أبوها ، عمي ، ترك البلاد حين هاجم اليهود بئر السبع . أخذ امرأته وبناته وأولاده ، واختفى في وادٍ ما ، في مكان ما . نحن هربنا مع غيرنا واستقررنا غربي بلادنا . قل ثلاث كيلو مترات . لم يكن خط الهدنة رسم . كنت في العشرين تقريبا . ولم يظن أحد من الذين تركوا بلادهم وبيوتهم أنها تركة بلا رجعة . ولا واحد فكر في ذلك . قال الناس أيام ونرجع . كنت أحب سعيدة ، واتفق أهلي وأهلها على زواجنا ، بنت عمي أنا أحق بها . وبعد ما تفرقنا ظلت في قلبي ، وظللت أنا في قلبها . وطال الفراق على المشتاق ، وانقطع الرجاء في اللقاء . وأرادت أمي أن تزوجني بنت أختها ، فقلت لها إنني لا رغبة لي في الزواج . والصحيح أنني حلفت ألا أتزوج غير سعيدة بنت عمي .كيف ؟ قلت يأتي الله بالفرج ، الصابرون دائما على خير . وفي صيف 1958 ، بعد عشر سنين من فرقة القلوب تسللت ليلا إلى بيت عمي . أعرف كل متر في الأرض أكثر من وجهي . لم أرَ تغيرا في الأرض . مشيت فيها كأنني أمشي نهارا . صحيح كان في القلب خوف ، لكنه ما كان كبيرا . صدق كنت أحس أنني في أرضي وأنه لا وجود لغريب فيها . البلاد تألفنا وتحبنا مثلما نألفها ونحبها . وصلت بيت عمي حوالي العاشرة . لم يصدقوا أنني جئت ، وبكوا وبكيت معهم . قلت لهم إنني جئت لأراهم وآخذ سعيدة وأرجع في ليلتي ، فقالوا الليلة التالية ، نريد أن نراك ، ووافقتهم ؛ فأنا مشتاق لهم ولبلادنا ، وزرت بيتنا وبكيت عنده وبكى عمي . بيت عمي بلا جيران . كل


الجيران من أقاربنا تركوا البلاد في الحرب . والليلة التالية ودعتهم أنا وسعيدة بالأحضان والدموع . ومثلما كتب الله لي _ الحمد لله _ السلامة في ذهابي كتبها لي ولسعيدة في الرجوع . وفي الصبح كادت أمي تخرج من جلدها فرحة وذهولا برؤية سعيدة وبسلامتنا . تزوجنا في هدوء إلا من زغرودتين أصرت أمي عليهما فرحة بزواجي . وبعد أيام جاء شرطي وسلمني طلب حضور إلى المركز . لعب الفأر في عبي . علمت الحكومة بما فعلت . يريدون التحقيق معي . ذهبت ثاني يوم إلى مركز الشرطة ، وهاتك أسئلة ! لماذا ذهبت ؟! وماذا رأيت ؟! ومع من التقيت ؟! وهل لي علاقة باليهود ؟! يعني هل أنا جاسوس ؟! قلت كل شيء . ليس عندي ما يلومونني عليه ، واقتنع المحقق بصدقي ، وهنأني بزواجي ، ومدح جرأتي ، واقترح الضابط الجالس معه أن أنضم للفدائيين ، فوافقت بسرعة ، وعند الفحص بعد أيام قالوا لي إن في نظري ضعفا خفيفا ، واستغربت .وسماني الناس الفدائي ، وبعد ثلاث سنوات التحقت بالجيش أنا وحسين في دفعة واحدة . " .


قلت منبهرا متأثرا : فدائي وأكثر من فدائي .
فابتسم ابتسامة كبيرة ، ونادى طالبا العشاء .
قلت في عزم مفاجىء : أنا مروح !
فتنبذ استلقاءه وحملق في : بعقلك ؟! قد تموت !
فجرت قصته في جرأة كامنة تذيب أي تردد. قلت : أغامر مثلك . ربني يسلمني مثلما سلمك .
_ اسمع الرعد !
ووسم البرق في الشرق خطوطا متكسرة مثيرة للرهبة والقلق ، وانقذفت في غور الظلام .

ندى الورد
05-01-2017, 10:39 AM
رائعة
واقعية جداً
يسسسلمووو لنقلككك
ويسسسلم والدككك
راقتني جداً
يعطيك العافية
ويعطي والدك الصحة يا رب

خَمْر أيلول
05-02-2017, 03:04 AM
حلوة القصة كثير

اتخيلتها مسلسل

الهجرة متل مافرقت ناس فرقت قلوب والا مانرجع بيوم لبلادنا

سرد قصصي انيق وجميل وبسيط

راقتني جدا هذه السطور

كل التقدير والاحترام لوالدك الكريم

بانتظار كل جديد لديكما

سكون وانين
05-02-2017, 07:26 AM
حلو ه كتير
متل مسلسل التغريبه
الله يعطيه الصحه والسعاده والدك
وشكرا الك مؤمن
يعطيك العافيه

غلا روحي
05-03-2017, 02:29 AM
يسلمو دياتك علي القصة

ودي وعبير ردي

عهد
05-03-2017, 03:42 PM
قصة جميلة
شكرا كثير
تحيتي

عاشق الاميره
08-20-2017, 03:40 PM
كلمات من دهب صيغة باسلوب راقي

ربي يسلم دياتك

كل الشكر الك