الساعة الرابعة وأحد عشرة دقيقة ، أفقتُ من النوم لا أدري لِمَ ، ربما كان من المقدر لي يومها أن أعرف بأن ذنوب المرء تدور ثم تلقى في جوفه للأبد ، زوجتي الوجه الأجمل على الإطلاق نائمة ، تشبه الأميرات في نومها ، ذلك النوع من الأميرات الذي يكون من المدهش ارتباطهم برجل مثلي !
وقفتُ في " بلكون " غرفتي أنظر إلى اللاشيء ، الأشخاص الذين لم يمروا إلا في خاطري لحظتها، تُرى ما الخيار الأشد قسوة الذي يدفع أحدهم للسهر حتى الرابعة فجراً ؟ فِي كل الأحوال لا يكون الأمر مُلتصقاً بالفرح حتى إن كان عاشقاً ، العشاق يوماً ما سيلعنون أنفسهم ألف مرة على كل لحظة أهدروها في إرهاق هذه الجفون مقابل نحفة من الحب، كُنت أدخن سيجارتي وأنا في أشد حالاتي نشوة ، كأنني أقوم بالقذف لا التدخين ، أنفخ فيها كل اشمئزازي من الدنيا، أنا مؤمن تماماً بأن النساء يشبهن في طبعن السجائر ، السجائر التي تدفع المرء منا إلى الإدمان بعد قليلاً من الوقت لكنه ما إن قرر الانسحاب لا يعيبه أبداً أن يدوس عليها بقدمه ويرحل ، نحن معشر الرجال الآخذين دائماً للقرارات ، لا شيء يوقفنا حتى لو اشتعلت في وجهونا كل سجائر الأرض !
ألقيت بالسيجارة وأنا لم أنهيها بعد لكنني أحببت أن أعطيها فرصة الحياة لثوان وكأنها سيجارة حرة .. خرجت من غرفتي لغسل فمي من هذا الطعم المتعفن ، وهنا .. رأيتُ الأمر الذي دفعني للعبور في خاطر كاتب هذه القصة ليكتبني !
تبكي .. لا لم تكن تبكي ، كانت تنطفئ ، هل يمكن للنور الوحيد في حياة الإنسان أن يبهت دفعة واحدة ؟!
ابنتي واسمها " هديل " ، بالمناسبة هديل السيجارة الوحيدة التي لم تشتعل بعد والتي لم أتمنى يوماً أن أرى بخار رجل يتصاعد منها..!
كانت هديل جميلة بطريقة تجعل الحلاوة تغار منها ، كثيرة الضحك بطريقة مفرطة ، في ثغرها أمر لا يمكنني شرحه أبداً لكني أشعر به كما لم أشعر بأي شيء آخر من قبل، تضحك بطريقة لذيذة ومستفزة تدفعني كل مرة لتقبيلها ألف مرة ، ربما كنت الأب الوحيد الذي أحب أبنته حب الأمهات !
كان بكائها يركلني، يهزّ بيّ كل الأشياء النائمة من سنين ، يعز على المرء أن يرى أطهر أشيائه حزينة أحياناً ، وضعتُ يداي على الباب وأنا أرتعش ، جسدي يقشعر كل ما أشجهت باكية، " لِم تبكي يا حبيبتي ؟ " هل تدرك شعور المرأة كثيرة الضحك والشغب حينما تقرر أن تقضي ليلتها في البكاء ؟ هل يمكنك التخمين كم كان الحزن هائلاً وقتها ، أريد أن أدخل ، أن أكسر كل حوائط العالم كي لا تسقط قطرة واحد من وجنتيها ، أريد أن ألصقها في صدري المصاب بالذبحة لكثيرة تدخين السجائر ، لكني لا أستطيع، هناك شيء يمنعني، لا يمكنني النظر في عينيها ، أحياناً يفضل الأباء والأمهات ألا يفتحوا غرف أبنائهم كي لا يكونوا مضطرين لفتح كل الغرف الأخرى والوصول لأطفالهم ، الطريق مرهق جداً ، مرهق جداً على رجل في عمري !
أنا أشبه هديل بملامح الحزن ، نحن نبكي بنفس النهج والانكسار ، نتبع نفس الطريقة في الضياع، الفرق الوحيد مكان ممارسة هذا الحزن ، كنت أفعل هذا وأنا في أحضان العابثات بينما هديل تفعل هذا بين يدي الله !
فتحتُ الباب ، لا يمكنني الانتظار ، الصوت يأكل قلبي ، نظرتُ إليها ، رغم أن كاتبي مزق الورقة إلا أنني ظللتُ أذكر المشهد ، أكثر المشاهد سخافة وتعب في كل الكتب ، تنظر إلى ابنتك وهي في أكثر حالاتها ضعفاً ، هذه النطفة أنت من قرر الإتيان بها إلى هنا من البداية ، سألتها بطريقة لا تخلو منها الدهشة .. " شو فيه يا بابا ؟ "
ورغم أني توقعت ملايين من القصص التي يمكن أن تدور بين أب وابنته ، لكني لم أبلي بلاء حسناً في معرفة ردة فعل صغيرتي نحوي ، أني مبتلي بعينيها ، أعاني من خوفها ، تحزن هي فأبكي أنا ، لا أدري لِم فضّلت هديل حضني عن سجادة الصلاة، الأطفال كثيراً ما يتعاملون مع أبائهم على أنهم أطهر من الجنة ، وكانت هديل من نوع الإناث ذلك ، اللواتي يعشن طوال حياتهن ليقولن " فعل أبي كذا وكذا " ..
ارتمت كلها بين يداي وبكت بكاء الفاقدين ، نوع البكاء الذي يبكيه المرء حينما يظل طيلة عمره مُنتظراً لرسالة ما ثم يجد كاتبها قد مات منذ سنين، بكت كالأطفال، أطفال فلسطين تحديداً ، حينما يبكي المرء خوفاً فأنه أشد قسوة ألف مرة من بكائه حزناً ، تبكي كما لو أن صاروخ ما اخترق سطح غرفتها وقلبي ، لا يمكنني إيقافها ، تبكي بطريقة كافية لأن تكون في موازنة مع بكاء كل النساء اللواتي عبرن في حياتي ..!
ترتعش بين يداي ثم هبت بعيداً عني ، كانت ترتجف وتبتعد ، إحاول إحداث حب بيننا لكني لا أجيد فعل هذا ، حتى تكورت في زواية الغرفة وجلست ، لا تكف عن الارتعاش والبكاء وتسأل حتى لحظتي هذه لا أدري لمن كانت توجه السؤال لكنها ظلت تكرره لكل الرجال حولنا في الغرفة الذين لم يكن يراهم أحداً غيرها ..
" ليش هيك صار ؟! "
حاولت التبرير ، أنا أحاول أن أدافع عن شخص لا أعرفه ، لكنني مضطر لذلك ، لازال أثر كلماتها ترن في أذني ، حاولت أن أحفظ كل كلماتها كي أستطيع إخبارهم لكاتبي كي يوصلها لكم إن حدث وماتت هديل ..!
" أنا خايفة منك يا بابا .. خايفة منكم كلكم " !
كلنا ؟!
من نحن؟!
هل أنا حزين ؟ هل أنا خائف لأن ابنتي تخاف مني !
ظلت تبكي وظللتُ متكور عند حافة السرير لا أجيد فعل شيء سوى التحديق في عينيها ، أريد أن أحفظ هذه الملامح جيداً، هذه النظرة تحمل ملايين من الحكايات التي يجب أن ترى النور في الكتب ، تلك الكتب التي تُكتب لكيلا تصل إلى مراتب الأدب العالمي ، بل تُكتب مع أمنيات كتابها للوصول إلى الوجع العالمي ، أريد أن أبث هذه النظرة في كل دواوين الشعر وحكايات الأطفال ، ثمة أشياء يراها المرء مرة واحدة في حياته تستحق أن يبقى طيلة العمر مذهولاً منها، ثمة شخص خان هديل ، قال بأنها قلبه ورحل ، كما كُنت أحلف ألف مرة قبل ذاك لحبيبتي أنها قلبي ، هل كان يحلف بنفس نظرتي؟ أم أنه ابتكر مشهداً جديداً لم يُدرس في كتب التاريخ !
شخص ما قام بإشعال السيجارة الوحيدة الذي ظللتُ محتفظاً بها باردة، كُنت أشعر حينها بذات الشعر حينما يلقي بك المرء الذي حلفت للعالم أسره أنه يسندك ، هل لله يد في ذلك ؟ هل ستقوم ابنة هديل بخيانة رجل ما ، هل يجازي الله الناس بطريقة أسرع من عبورهم إلى الصراط المستقيم ؟ هل كنت طوال هذا الوقت لاشيء بالنسبة لله ؟!
خرجتُ من الغرفة ، أقفلتُ الباب ، كان نوم هديل يعني لي نوم الماضي في نفس المكان الذي ظل نائماً به ملايين من السنين، عُدت إلى سريري ، أقفلت عيناي في قلب زوجتي وبكيت بكاء النادمين ونسيت أن أقول بأن هذا النوع الثالث من البكاء هو الأشد حزناً على الإطلاق ّ!