السجين

السجين
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
زارَكَ الشوقُ إذا الشوقُ سَما ... يا سَجينَ الرّوحِ بالمُحتَبَسِ
لم يَكُنْ سِجنُكَ إلّا ظُلُمًا ... في الورى أو تُهمَةَ الملتَبِسِ
***
إذ يَسودُ الحُلْمَ أضغاثُ المُنى ... نُسْرِعِ الخَطوَ بما قد تَحْلُمُ
فِرَقًا بَينَ فرادى وثَنا ... كيفَما كان الأسى والظُلَمُ
والدوا قد حَلَّلَ النَفسَ هنا ... فقَيودُ الأسْرِ فيه تَبْسُمُ
ورَوى السجّانُ عن طيبٍ كما ... كان يَروي ظالِمٌ عَن قُدُسِ
فَكساهُ القُبْحُ نُطقًا طالما ... يَنتَقي منه بأبذى دَنَسِ
***
في لَيالٍ سَتَرَتْ سِرَّ الجَوى ... بالدُجى لولا أنينُ السَهَرِ
ساءَ شُرْبُ الكأسِ منها ورَوى ... مُستَجيرَ القيدِ كَسْرَ الضَجَرِ
ضَجَرٌ قد حَلَّ فينا وثَوى ... يَبتغي منَّا ثَوابَ الضَرَرِ
حين حلَّ السُهدُ شينًا أو كما ... رفسَ السَوطُ رَفوسَ الفرسِ
طالَما الصُبحُ نأى أو رُبَّما ... أثَّرت فينا قيودُ الحَرَسِ
***
كلُّ قَولٍ لسجينٍ بالعصا ... يقتلُ الجُبنَ وخَوفٌ كان فيهْ
مثلما قد تقتُلُ النارُ الحَصا ... أمِنَ المكرَ خليلٌ مِن أخيهْ
وسجينٌ قد يلاقي الفُرَصا ... بهروبٍ أو سراحٍ يبتغيهْ
يُبصرُ الطيرَ غيورًا بِسَما ... فيه غَيضٌ مِن جِرابٍ يَحتسِي
ليته طيرٌ وفي الجَوِّ هَمى ... بجناحٍ فيه ريشٌ يَكتَسِي
***
يا أُخَيَّ الحَيِّ مِن قَبْوِ الغضا ... وبقلبي مأمَنٌ أنتم بهِ
ضاقَ قَبْوي وفؤادي كالفضا ... لا أبالي ضيقَه مِن وُسْعِهِ
فاستَعيدوا مجدَ عهدٍ قد مضى ... تَعتقوا قلبَكمُ مِن أسرِهِ
كصلاحِ الدينِ أحيوا مَأتَما ... يترامى بين دورِ النُجَّسِ
واستعينوا بالإلهِ ربَّما ... يتهاوَوا كالذبابِ الكُنَّسِ
***
وفؤادي بالمُنى مُقترِبٌ ... بهواجيسِ الجوى قلبي بعيدْ
وصموتٌ بالعصا مُنتحِبٌ ... صرخةٌ رغمَ الضنى قلبي سعيدْ
قد تساوى مشرقٌ أو مغربٌ ... في عداه بين كيدٍ ومكيدْ
أبيضُ البشرَةِ مشبوهَ الدُمى ... عاثَ في الظهرِ بجَلدِ النَّفَسِ
سدَّدَ السَوطَ فأدمى إذ رمى ... بفؤادي نابَهُ المُفتَرِسِ
***
إن يكن ضامَ وخابَ الحنظلُ ... ففؤادُ الصخرِ بالحُوبِ يذوبْ
فَهْوَ للقُدسِ ضَغينٌ أوَّلُ ... ليسَ في الغيبِ لمظلومٍ ذنوبْ
حسبُهُ اللهُ الوكيلُ الأمثلُ ... لقلوبٍ قد بَراها في الغُيوبْ
حَكَمَ اللهُ لمظلومٍ دَمى ... بقضاءٍ لجَميعِ الأنفُسِ
يُنصفُ المظلومَ دَومًا في السما ... ويجازي البرَّ فيها والمُسِي
***
ما لقلبٍ كلَّما حَنَّ الصِبا ... ساءَهُ قَيدٌ مِنَ الطَوقِ حديدْ
جاءَ في القرآنِ قَولٌ كُتِبا ... قوله: "إنَّ عذابي لشديدْ"
قد أزاحَ الهمَّ منه فحَبا ... رحمةً قد وسعت خلقَ الرشيدْ
تاركًا في أضلعٍ خَيرًا رمى ... صبرَ أيُّوبَ به مُستأنِسِ
مِن ظلامٍ لضِياءٍ مثلما ... اِنبلاجُ الصُبحِ بعد الغَلَسِ
***
سلِّمِ النفسَ لحُكمٍ بالقضا ... واغنَمِ الوقتَ رجوعًا ومَتابْ
مِن زمانٍ فيه ذنبٌ قد مَضى ... واقرإِ القرآنَ مِن أمِّ الكتابْ
واذكرِ الله بقَولٍ ورضى ... دونَ غَيظٍ دونَ لومٍ وعِتابْ
الشريفُ المفتدى عزًّا رمى ... والذليلُ اختارَ ذلَّ المُفلِسِ
ينزلُ الخِزيُ عليه مثلما ... تأكلُ النارُ حطامَ اليَبَسِ
***
مِن بني يعقوبَ غِللٌ ما شفى ... ولنا بالله نصرٌ في البَلدْ
فإذا أبلى رضيعٌ قد كفى ... وإذا ما فُطِمَ الشِبلُ أسَدْ
مِن بني ربعي فحولٌ مِن صَفا ... حيثُ قَبْوُ الأسرِ مشدودَ الوَتَدْ
حيثُ قَبْوُ الأسرِ مكفولَ الحِمى ... ودَنا الليلُ سَجِيَّ المُؤنِسِ
والدجى ظلَّ سحيمٌ خيّما ... والأسى هبَّ إلى المؤتَنَسِ
***
هكذا يا سِبطَ أحبارِ البَلى ... والذي إن ظفَرَ الحُمرَ أسالْ
عادةً ألبسها الجورُ غلا ... تُدمِعُ العينَ بلاءً ومِحالْ
أفزعت حِقدًا وبُغضًا وقِلى ... قلبَ مَن أنطقه السجنُ فقالْ:
هل درى قيد العمى أن قد دمى ... يدَ طفلٍ يانعٍ في المِحبَسِ
فَهْوَ في مدٍّ و جَزرٍّ مِثلما ... لعبت موجُ العِدى بالقُدُسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد جعيجع من الجزائر – 28 جوان 2022